كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: إنه بالشأم هو واد يسكنه الجن وذلك النمل مراكبهم.
وقيل: إن ذلك النمل الذباب.
وقيل كالبخاتي والمشهور أنه النمل الصغير {قالت نملة} قيل: كانت عرجاء وكانت ذات جناحين وقيل اسمها طاخية وقيل جرمى {يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم} ولم يقل ادخلن لأنه جعل لهم عقولًا كالآدميين فخوطبوا خطاب الآدميين وهذا ليس بمستعبد أن يخلق الله فيها عقلًا ونطقًا فإنه قادر على ذلك {لا يحطمنكم} أي لا يكسرنكم {سليمان وجنوده وهم لا يشعرون} قال أهل التفسير.
علمت النملة أن سليمان نبي ليس فيه جبروتية ولا ظلم، ومعنى الآية أنكم لو لم تدخلوا وطؤوكم، ولم يشعروا فسمع سليمان قولها من ثلاثة أميال وكان لا يتكلم أحد بشيء إلا حملته الريح حتى تلقيه إلى مسامع سليمان، فلما بلغ وادي النمل حبس جنوده حتى دخلوا بيوتهم.
فإن قلت: كيف يتصور الحطم من سليمان وجنوده وهو فوق البساط على متن الريح، قلت كأنهم أرادوا النزول عند منقطع الوادي، فلذلك قالت نملة: لا يحطمنكم سليمان وجنوده لأنهم ما دامت الريح تحملهم لا يخاف حطمهم {فتبسم ضاحكًا من قولها} قيل أكثر ضحك الأنبياء تبسم وقيل معنى ضاحكًا متبسمًا، وقيل: كان أوله التبسم وآخره الضحك ق عن عائشة قالت: ما رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم مستجمعًا قط ضاحكًا حتى أرى منه لهواته إنما كان يتبسم عن عبد الله بن الحارث بن جزء قال ما رأيت أحدًا أكثر تبسمًا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخرجه الترمذي فإن قلت: ما كان سبب ضحك سليمان.
قلت شيئان: أحدهما ما دل من قولها على ظهور رحمته ورحمة جنوده وشفقتهم، وذلك قولها وهم لا يشعرون يعني أنهم لو شعروا ما يفعلون.
الثاني سروره بما آتاه الله مما لم يؤت أحدًا من إدراك سمعه، ما قالته النملة وقيل: إن الإنسان إذا رأى أو سمع ما لا عهد له به تعجب وضحك، ثم إن سليمان حمد ربه على ما أنعم به عليه {وقال رب أوزعني} أي ألهمني {أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحًا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين} أي أدخلني في جملتهم، وأثبت اسمي مع أسمائهم واحشرني في زمرتهم.
قال ابن عباس: يريد مع إبراهيم واسماعيل وإسحاق ويعقوب ومن بعدهم من النبيين وقيل: أدخلني الجنة مع عبادك الصالحين.
قوله: {وتفقد الطير} أي طلبها وبحث عنها والمعنى أنه طلب ما فقد من الطير {فقال ما لي لا أرى الهدهد} وكان سبب تفقده الهدهد وسؤاله عنه إخلاله بالنوبة، وذلك أن سليمان كان إذا نزل منزلًا تظله وجنده الطير من الشمس، فأصابته الشمس من موضع الهدهد فنظر فرآه خاليًا.
وروي عن ابن عباس أنه كان دليله على الماء وكان يعرف موضع الماء ويرى الماء تحت الأرض كما يرى في الزجاجة، ويعرف قربه من بعده فينقر الأرض فتجيء الشياطين فيحفرونه ويستخرجون الماء منه قال سعيد بن جبير: لما ذكر ابن عباس هذا، قال نافع بن الأزرق بأوصاف انظر ما تقول إن الصبي منا يضع الفخ ويحثو عليه التراب، فيجيء بالهدهد، وهو لا يبصر الفخ حتى يقع في عنقه، فقال له ابن عباس ويحك إذا جاء القدر حال دون البصر وفي رواية إذا نزل القضاء والقدر ذهب اللب، وعمي البصر فنزل سليمان منزلًا واحتاج إلى الماء، فطلبوه فلم يجدوه فتفقد الهدهد ليدله على الماء فقال ما لي لا أرى الهدهد على تقدير أنه مع جنوده، وهو لا يراه ثم إنه أدركه الشك فقال: {أم كان من الغائبين} أي أكان وقيل بل كان من أهل الغائبين، ثم أوعده على غيبته.
قال: {لأعذبنه عذابًا شديدًا} قيل هو أن ينتف ريشه وذنبه ويلقيه في الشمس ممعطًا لا يمتنع من النمل ولا من غيره وقيل لأودعنه القفص ولأحبسنه مع ضده، وقيل لأفرقنَّ بينه وبين إلفه {أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين} أي بحجة بينة على غيبته وكان سبب غيبة الهدهد على ما ذكر العلماء أن سليمان لما فرغ من بناء بيت المقدس، عزم على الخروج إلى أرض الحرم فتجهز للمسير واستصحب جنوده من الجن والإنس، والطير والوحش فحملتهم الريح فلما وافى الحرم أقام ما شاء الله أن يقيم، وكان في كل يوم ينحر حول مقامه خمسة آلاف ناقة ويذبح خمسة آلاف ثور وعشرين ألف شاة وقال لمن يحضر من أشراف قومه إن هذا المكان يخرج منه نبي عربي صفته كذا وكذا، يعطى النصرة على جميع من ناوأه وتبلغ هيبته مسيرة شهر، القريب والبعيد عنده في الحق سواء لا تأخذه من الله لومة لائم قالوا فبأي دين يدين يا نبي الله؟ قال: بدين الحنيفية فطوبى لمن أردكه وآمن به قالوا كم بيننا وبين خروجه يا نبي الله قال مقدار ألف سنة فليبلغ الشاهد الغائب، فإنه سيد الأنبياء وخاتم الرسل قال فأقام بمكة حتى قضى نسكه ثم خرج من مكة صباحًا، وسار نحو اليمن فوافى صنعاء زوالًا أي وقت الزوال، وذلك مسيرة شهر فرأى أرضًا حسناء تزهو خضرتها فأحب النزول بها ليصلي ويتغذى فلما نزل قال الهدهد: اشتغل سليمان بالنزول فارتفع نحو السماء لينظر إلى الدنيا، وعرضها فبينما هو ينظر يمينًا وشمالًا رأى بستانًا لبلقيس فنزل إليه فإذا هو بهدهد آخر وكان اسم هدهد سليمان يعفور واسم هدهد اليمن يعفير، فقال يعفير ليعفور: من أين أقبلت وأين تريد قال أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان بن داود قال ومن سليمان بن داود؟ قال: ملك الإنس والجن والشياطين، والطير والوحش والرياح فمن أين أنت يا يعفير قال أنا من هذه البلاد قال: ومن ملكها؟ قال: امرأة يقال لها بلقيس وإن لصاحبك ملكًا عظيمًا، ولكن ليس ملك بلقيس دونه، فإنها تملك اليمن وتحت يدها أربعمائة ملك كل ملك على كورة مع كل ملك أربعة آلاف مقاتل، ولها ثلاثمائة وزير يديرون ملكها ولها اثنا عشر ألف قائد مع كل قائد اثنا عشر ألف مقاتل، فهل أنت منطلق معي حتى تنظر إلى ملكها قال أخاف أن يفقدني سليمان في وقت الصلاة إذا احتاج إلى الماء قال الهدهد اليماني إن صاحبك يسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة.
قال فانطلق معه ونظر إلى بلقيس وملكها، وأما سليمان فإنه نزل على غير ماء فسأل عن الماء الإنس والجن فلم يعلموا فتفقد الهدهد فلم يره فدعا بعريف الطير، وهو النسر فسأله عن الهدهد فقال أصلح الله الملك ما أدري أين هو، وما أرسلته إلى مكان فغضب سليمان وقال لأعذبنه الآية ثم دعا العقاب وهو أشد الطير، فقال له عليّ بالهدهد هذه الساعة فرفع العقاب في الهواء حتى رأى الدنيا كالقصعة بين يدي أحدكم، ثم التفت يمينًا وشمالًا فرأى الهدهد مقبلًا من نحو اليمن فانقض العقاب بريده، فعلم الهدهد أن العقاب يقصده بسوء فقال له بحق الله الذي قواك وأقدرك علي إلا ما رحمتني، ولم تتعرض لي بسوء فتركه العقاب وقال ويحك ثكلتك أمك إن نبي الله قد حلف أن يعذبك، أو أن يذبحك ثم طارا متوجهين نحو سليمان فلما انتهيا إلى العسكر تلقاه النسر والطير، فقالوا: ويلك إين غبت في يومك هذا فلقد توعدك نبي الله وأخبروه بما قال سليمان.
فقال الهدهد: أو ما استثنى نبي الله قالوا بلى ولكنه قال أو ليأتيني بسلطان مبين.
قال نجوت إذًا فانطلق به العقاب: حتى أتيا سليمان وكان قاعدًا على كرسيه فقال العقاب قد أتيتك به يا نبي الله فلما قرب منه الهدهد رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعًا لسليمان، فلما دنا منه أخذ برأسه فمده إليه.
وقال له: أين كنت لأعذبنك عذابًا شديدًا فقال يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله فلما سمع سليمان ذلك ارتعد وعفا عنه، ثم قال ما الذي أبطأك عني فقال الهدهد ما أخبر الله عنه بقوله تعالى: {فمكث غير بعيد} معناه أي غير طويل {فقال أحطت بما لم تحط به} أي عملت ما لم تعلم وبلغت ما لم تبلغ أنت ولا جنودك ألهم الله الهدهد هذا الكلام فكافح سليمان تنبيهًا على أن أدنى خلق الله قد أحاط علمًا بما لم يحط به ليكون لطفًا له في ترك الإعجاب.
والإحاطة بالشيء علمًا أن يعلمه من جميع جهاته حتى لا يخفى عليه من معلوم {وجئتك من سبأ} قيل: هو اسم للبلد وهي مأرب والأصح أنه اسم رجل وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وقد جاء في الحديث أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سئل عن سبأ فقال: «رجل له عشرة من النبين تيامن منهم ستة وتشاءم أربعة» {بنبأ} أي بخبر {يقين} فقال سليمان وما ذاك.
قال: {إني} أي الهدهد {وجدت امرأة تملكهم} هي بلقيس بنت شراحيل من نسل يعرب من قحطان، وكان أبوها ملكًا عظيم الشأن قد ولد له أربعون ملكًا هو آخرهم، وكان يملك أرض اليمن كلها وكان يقول لملوك الأطراف ليس أحد منكم كفؤًا لي وأبى أن يتزوج منهم فخطب إلى الجن فزوجوه منهم امرأة يقال لها ريحانة بنت السكن.
قيل في سبب وصوله إلى الجن حتى خطب منهم، أنه كان كثير الصيد فربما اصطاد الجن، وهم على صورة الضباء فيخلي عنهم فظهر له ملك الجن وشكره على ذلك واتخذه صديقًا، فخطب ابنته فزوجه إياها وقيل إنه خرج متصيدًا فرأى حيتين يقتتلان بيضاء وسوداء، وقد ظهرت السوداء على البيضاء، فقتل السوداء وحمل البيضاء وصب عليها الماء فأفاقت، وأطلقها فلما رجع إلى داره وجلس وحده منفردًا، فإذا معه شاب جميل فخاف منه، قال: لا تخاف أنا الحية البيضاء التي أحييتني والأسود الذي قتلته هو عبد لنا تمرد علينا، وقتل عدة منا وعرض عليه المال فقال: المال لا حاجة لي به.
ولكن إن كان لك بنت فزوجنيها فزوجه ابنته، فولدت له بلقيس وجاء في الحديث: «إن أحد أبوي بلقيس كان جنيًا فلما مات أبو بلقيس طمعت في الملك وطلبت قومها أن يبايعوها فأطاعها قوم وأبى آخرون، وملكوا عليهم رجلًا آخر يقال: إنه ابن أخي الملك وكان خبيثًا سيء السيرة في أهل مملكته، حتى كان يمد يده إلى حريم رعيته، ويفجر بهن فأراد قومه خلعه فلم يقدروا عليه فلما رأت بلقيس ذلك، أدركتها الغيرة فأرسلت إليه فعرضت نفسها عليه فأجابها الملك وقال: ما منعني أن أبتدئك بالخطبة إلا اليأس منك فقالت لا أرغب عنك لأنك كفوء كريم فاجمع رجال أهلي واخطبني منهم، وخطبها فقالوا لا نراها تفعل فقال: بلى إنها قد رغبت فيّ فذكروا ذلك لها فقالت: نعم فزوجوها منه فلما زفت إليه خرجت في ملأ كثير من خدمها وحشمها، فلما دخلت به سقته الخمر حتى سكر ثم قتلته وحزت رأسه وانصرفت إلى منزلها من الليل، فلما أصبحت أرسلت إلى وزرائه وأحضرتهم وقرعتهم وقالت أما كان فيكم من يأنف لكريمته أو كرائم عشيرته، ثم أرتهم إياه قتيلًا وقالت اختاروا رجلًا تملكونه عليكم فقالوا لا نرضى غيرك فملكوها وعلموا أن ذلك النكاح كان مكرًا وخديعة منها» خ: عن أبي بكرة قال لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى قال «لن يفلح قوم ملكوا عليهم امرأة» قوله تعالى: {وأوتيت من كل شيء} يعني ما تحتاج إليه الملوك من المال والعدة {ولها عرش عظيم} أي سرير ضخم عال.
فإن قلت: كيف استعظم الهدهد عرشها على ما رأى من عظمة ملك سليمان.
قلت: يحتمل أنه استعظم ذلك بالنسبة إليها، ويحتمل أنه لم يكن لسليمان مع عظم ملكه مثله وكان عرش بلقيس من الذهب مكللًا بالدر، والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر، وقوائمه من الياقوت والزمرد، وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق قال ابن عباس: كان عرش بلقيس ثلاثين ذراعًا في ثلاثين ذراعًا وطوله في السماء ثلاثون ذراعًا.
وقيل كان طوله ثمانين في ثمانين وعلوه ثمانون وقيل: كان طوله ثمانين وعرضه أربعين وارتفاعه ثلاثون ذراعًا.
قوله إخبارًا عن الهدهد {وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله} وذلك أنهم كانوا يعبدون الشمس، وهم مجوس {وزين لهم الشيطان أعمالهم} المزين هو الله لأنه الفعل لما يريد، وإنما ذكر الشيطان لأنه سبب الإغواء {فصدهم عن السبيل} أي عن طريق الحق الذي هو دين الإسلام {فهم لا يهتدون} أي إلى الصواب {ألا يسجدوا} قرئ بالتخفيف ومعناه ألا يا أيها الناس اسجدوا وهو أمر من الله مستأنف، وقرىء بالتشديد ومعناه وزين لهم الشيطان أعمالهم لئلا يسجدوا {لله الذي يخرج الخبء} يعني الخفي المخبأ {في السموات والأرض} قيل خبء السموات المطر وخبء الأرض النبات {ويعلم ما تخفون وما تعلنون} والمقصود من هذا الكلام الرد على من يعبد الشمس وغيرها، من دون الله لأنه لا يستحق العبادة إلا من هو قادر على من في السموات والأرض، عالم بجميع المعلومات {الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم} أي هو المستحق للعبادة والسجود لا غيره.
فصل:
وهذه السجدة من عزائم السجود، يستحب للقارىء والمستمع أن يسجد عند قراءتها.
فإن قلت: قد وقف عرش بلقيس بالعظم وعشر الله بالعظم، فما الفرق بينهما.
قلت وصف عرش بلقيس بالعظم بالنسبة إليها وإلى أمثالها من ملوك الدنيا وأما عرش الله تعالى فهو بالنسبة إلى جميع المخلوقات من السموات والأرض، فحصل الفرق بينهما. اهـ.